كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن أصرح الأدلة في هذا أن الكفار إذا أحلوا شيئًا، يعلمون أن الله حرمه وحرموا شيئًا يعلمون أن الله أحله، فإنهم يزدادون كفرًا جديدًا بذلك، مع كفرهم الأول، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا النسيئ زِيَادَةٌ فِي الكفر} [التوبة: 37] إلى قوله: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264].
وعلى كل حال فلا شك أن كل من أطاع غير الله، في تشريع مخالف لما شرعه الله، فقد أشرك به مع الله كما يدل لذلك قوله: {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] فسماهم شركاء لما أطاعوهم في قتل الأولاد.
وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله} [الشورى: 21] فقد سمى تعالى الذين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله شركاء، ومما يزيد ذلك إيضاحًا، أن ما ذكره الله عن الشيطان يوم القيامة، من أنه يقول للذين كانوا يشركون به في دار الدنيا، إني كفرت بما أشركتمون من قبل، أن ذلك الإشراك المذكور ليس فيه شيء زائد على أنه دعاهم إلى طاعته فاستجابوا له كما صرح بذلك في قوله تعالى عنه: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22] الآية، وهو واضح كما ترى.
قوله تعالى: {فَاطِرُ السماوات والأرض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنعام أَزْواجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}.
قوله تعالى: {فَاطِرُ السماوات والأرض} تقدم تفسيره في أول سورة فاطر.
وقوله: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}.
أي خلق لكم أزواجًا من أنفسكم كما قدمنا الكلام عليه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] وبينا أن المراد بالأزواج الإناث كما يوضحه قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لتسكنوا إليها وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَة} [الروم: 21] الآية.
وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} [النجم: 45- 46] وقوله: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 39] وقوله تعالى: {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 1- 3] الآية.
وقوله في آدم: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] الآية.
وقوله تعالى فيه أيضًا: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] الآية.
وقوله تعالى فيه أيضًا: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6] الآية.
وقوله تعالى: {وَمِنَ الأنعام أَزْواجا} هي الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين} [الأنعام: 143] الآية. وفي قوله: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] وهي ذكور الضأن والمعز والإبل والبقر وإناثها، كما قدمنا إيضاحه في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى: {والأنعام والحرث} [آل عمران: 14].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} الظاهر أن ضمير الخطاب في قوله: {يذرؤكم} شامل للآدميين والأنعام، وتغليب الآدميين على الأنعام في ضمير المخاطبين في قوله: يذرؤكم واضح لا إشكال فيه.
والتحقيق إن شاء الله أن الضمير في قوله: {فيه} راجع إلى ما ذكر من الذكور والإناث، من بني آدم والأنعام في قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنعام أَزْواجا} [الشورى: 11] سواء قلنا إن المعنى: أنه جعل للآدميين إناثًا من أنفسهم أي من جنسهم، وجعل للأنعام أيضًا إناثًا كذلك، أو قلنا إن المراد بالأزواج الذكور والإناث منهما معًا.
وإذا كان ذلك كذلك، فمعنى الآية الكريمة {يذرؤكم} أي يخلقكم ويبثكم وينشركم فيه، أي فيما ذكر من الذكور والإناث، أي في ضمنه، عن طريق التناسل كما هو معروف.
ويوضح ذلك في قوله تعالى: {اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء} [النساء: 1] فقوله تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء} يوضح معنى قوله: {يَذْرَؤُكُمْ فِيه}.
فإن قيل: ما وجه إفراد الضمير المجرور في قوله: {يذرؤكم فيه}، مع أنه على ما ذكرتم، عائد إلى الذكور والإناث من الآدميين والأنعام؟
فالجواب: أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن، رجوع الضمير أو الإشارة بصيغة الإفراد إلى مثنى أو مجموع باعتبار ما ذكر مثلًا.
ومثاله في الضمير: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام: 46] الآية، فالضمير في قوله: {به} مفرد مع أنه راجع إلى السمع والأبصار والقلوب.
فقوله: {يأتيكم به} أي بما ذكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم، ومن هذا المعنى قول رؤبة بن العجاج:
فيها خطوط من سواد وبلق ** كأن في الجلد توليع البهق

فقوله: كأنه أي ما ذكر من خطوط من سواد وبلق.
ومثاله في الإشارة {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ} [البقرة: 68] أي بين ذلك المذكور، من فارض وبكر، وقول عبد الله بن الزبعري السهمي:
إن للخير وللشر مدى ** وكلا ذلك وجه وقبل

أي كلا ذلك المذكور من الخير والشر.
وقول من قال، إن الضمير في قوله: {فيه} راجع إلى الرحم، وقول من قال راجع إلى البطن، ومن قال راجع إلى الجعل المفهوم من جعل وقول من قال: راجع إلى التدبير، ونحو ذلك من الأقوال خلاف الصواب.
والتحقيق إن شاء الله هو ما ذكرنا والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السميع البصير}.
وقد قدمنا الكلام عليه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} [الأعراف: 54].
قوله تعالى: {لَهُ مَقاليدُ السماوات والأرض يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِر}.
مقاليد السماوات والأرض هي مفاتيحهما.
وهو جمع لا واحد له من لفظه، فمفردها إقليد، وجمعها مقاليد على غير قياس.
والإقليد المفتاح. وقيل: واحدها مقليد، وهو قول غير معروف في اللغة.
وكونه جل وعلا {لَهُ مَقاليدُ السماوات والأرض} أي مفاتيحهما كناية عن كونه جل وعلا هو وحده المالك لخزائن السماوات والأرض لأن ملك مفاتيحها يستلزم ملكها.
وقد ذكر جل وعلا مثل هذا في سورة الزمر في قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ على كُلِّ شَيْء وَكِيلٌ لَّهُ مَقاليدُ السماوات والأرض} [الزمر: 62- 63] الآية.
وما دلت عليه آية الشورى هذه وآية الزمر المذكورتان من أنه جل وعلا هو مالك خزائن السماوات والأرض، جاء موضحًا في آيات أخر كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السماوات والأرض ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] وقوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21].
وبين في مواضع أخر أن خزائن رحمته لا يمكن أن تكون لغيره، كقوله تعالى: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العزيز الوهاب} [ص: 9] وقوله تعالى: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المسيطرون} [الطور: 37] وقوله تعالى: {قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق وَكَانَ الإنسان قَتُورا} [الإسراء: 100].
وقوله في هذه الآية الكريمة {يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِر} جاء معناه موضحًا في آيات أخر كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [سبأ: 39] الآية.
وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [سبأ: 36] وقوله تعالى: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بالحياة الدنيا} [الرعد: 26] الآية.
وقوله تعالى: {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق} [النحل: 71] الآية.
وقوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا} [الزخرف: 32] الآية.
وقوله تعالى: {يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135] الآية.
وقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله} [الطلاق: 7] الآية.
وقوله تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُه} أي ضيق عليه رزقه لقلته. وكذلك قوله: {يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِر} في الآيات المذكورة.
أي يبسط الرزق لمن يشاء بسطه له ويقدر، أي يضيق الرزق على من يشاء تضييقه عليه كما أوضحناه في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْه} [الأنبياء: 87].
وقد بين جل وعلا في بعض الآيات حكمة تضييقه للرزق على من ضيقه عليه.
وذكر أن من حكم ذلك أن بسط الرزق للإنسان، قد يحمله على البغي والطغيان كقوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]، وقوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6- 7].
قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحًا والذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين}.
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الأحزاب في الكلام على قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] الآية.
قوله تعالى: {وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ}.
الضمير في قوله: راجع إلى الدين في قوله: {أن أقيموا الدين}.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن الافتراق في الدين، جاء مبينًا في غير هذا الموضع، وقد بين تعالى أنه وصى خلقه بذلك، فمن الآيات الدالة على ذلك، قوله تعالى: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: 103] الآية.
وقوله تعالى: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] وقد بين تعالى في بعض المواضع أن بعض الناس لا يجتنبون هذا النهي، وعددهم على ذلك كقوله تعالى: {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] لأن قوله: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} إلى قوله: {يَفْعَلُونَ} فيه تهديد عظيم لهم.
وقوله تعالى في سورة {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} [المؤمنون: 1] {وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ} [المؤمنون: 52- 54].
فقوله: {وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي إن هذه شريعتكم شريعة واحدة ودينكم دين واحد، وربكم واحد فلا تتفرقوا في الدين.
وقوله جل وعلا: {فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} دليل على أنهم لم يجتنبوا ما نهوا عنه من ذلك.
وقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ} فيه تهديد لهم ووعيد عظيم على ذلك. ونظير ذلك قوله تعالى في سورة الأنبياء: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: 92- 93] فقوله تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُون} فيه أيضًا تهديد لهم ووعيد على ذلك وقد أوضحنا تفسير هذه الآيات في آخر سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الإنبياء: 92] الآية.
وقد جاء في الحديث المشهور «افتراق اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافتراق النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وافتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأن الناجية منها واحدة، وهي التي كانت على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه».
قوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إليه}.
بين جل وعلا أنه كبر على المشركين أي شق عليهم وعظم ما يدعوهم إليه صلى الله عليه وسلم من عبادة الله تعالى وحده، وطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه، ولعظم ذلك ومشقته عليهم، كانوا يكرهون ما أنزل الله ويجتهدون في عدم سماعه لشدة كراهتهم له، بل يكادون يبطشون بمن يتلو عليهم آيات ربهم لشدة بغضهم وكراهتهم لها.
والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة في كتاب الله، وفيها بيان أن ذلك هو عادة الكافرين مع جميع الرسل من عهد نوح إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم.
فقد بين تعالى مشقة ذلك على قوم نوح وكبره عليهم في مواضع من كتابه كقوله تعالى: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قال لِقَوْمِهِ يا قوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71] الآية.
وقوله تعالى عن نوح {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ واستكبروا استكبارا} [نوح: 7].
فقوله تعالى: {جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ} يدل دلالة واضحة على شدة بغضهم وكراهتهم لما يدعوهم إليه نوح، فهو واضح في أنهم كبر عليهم ما يدعوهم إليه من توحيد الله والإيمان به.
وقد بين الله تعالى مثل ذلك في الكفار الذين كذبوا نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم في آيات من كتابه كقوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر يَكَادُونَ يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} [الحج: 72] فقوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر} الآية. يدل دلالة واضحة، على شدة بغضهم وكراهيتهم لسماع تلك الآيات.
وكقوله تعالى: {وَقال الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] الآية.
وقوله تعالى في الزخرف.
{لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 78]، وقوله تعالى في قد أفلح المؤمنون {أَمْ يَقولونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70] وقوله تعالى في القتال {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أنزل الله فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد صلى الله عليه وسلم: 9]، وقوله تعالى: {تَلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ الله تتلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية: 6- 8] وقوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقرأ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 7]، وقوله تعالى: {وَقالواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إليه وَفِي آذانِنَا وَقر وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] الآية. والآيات بمثل ذلك كثيرة.